الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالواح} أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب العقل والفكر والخيال فظهر فيها {مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي بعزم لتكون من ذويه {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي أكثرها نفعًا وهي العزائم {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} [الأعراف: 145] أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 146] هم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابًا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذي فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا حجوبين ولا يعد تكبرهم مذمومًا لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرًا له.{والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الاخرة} [الأعراف: 147] حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئًا {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلًا} صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهبًا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه: {جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم {وَأَلْقَى الالواح} أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلًا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} يجره إليه ظنًا أنه قصر في كفهم.{قَالَ ابن أُمَّ} [الأعراف: 150] ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوي بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودًا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلًا إلى الحق {اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين} [الأعراف: 148] حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا عند جروع موسى الروح {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بجذبات العناية {وَيَغْفِرْ لَنَا} بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحاته وتعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 149] رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} وهم الأوصاف الإنسانية {غضبان} مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا {أَسَفًا} على ما فات لها من عبادة الحق {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} حيث لم تسيروا سيري {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى: {وَأَلْقَى الالواح} أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} وهو القلب يجره إليه قسرًا، {قَالَ ابن أُمَّ} ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخلق لأنهما في عالم الخلق {إِنَّ القوم} أي أوصاف البشرية {استضعفونى} عند غيبتك {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية{فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} [الأعراف: 150] وهم وهم، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} [الأعراف: 151] لأن كل رحمة فهو شعاع نور رحمتك {إِنَّ الذين اتخذوا العجل} أي عجل الدنيا إلهًا {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ} وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم {وكذلك نَجْزِى المفترين} [الأعراف: 152] الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجودًا لما سواه، {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ} رجعوا إليه سبحانه وتعالى جاهدة نفوسهم وإفنائها إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم {رحيم} [الأعراف: 153] فيفيض عليهم من صفاته ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق {وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقاتنا} إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلًا من أشراف قومه ونجباءهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهوره طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرًا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، ورا يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهني سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعًا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرًا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمر من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدًا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلى به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب مه ذلك الحال كمن به حكة لا يصبر معها على عدم الحك.وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلى بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو ابتلى بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلى بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضًا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلامًا أو قصد محاكاة بعضهم أصوات الحيوانات وإن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغى التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطراز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى: {رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى} وذلك من شدة غلبته الشوق، و{لَوْ} هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق. خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} [الأعراف: 156] بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدًا والقوم يقولون نراه قريبًا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونه.
|